حكم تسمو بالهمم فوق القمم
*********************
شرح حكم الإمام ابن عطاء السكندري للشيخ راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علمًا ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الأخوة الكرام ؛ انطلاقاً من قول الله عز وجل : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } البقرة269
الحكمة أن تعرف الحقيقة ! والحكمة أن تعرف سرّ وجودك وأن تعرف لماذا أنت في الدنيا ، وأن تتاجر مع الله ، وأن تكسب الدار الآخرة ، وأن تزكي نفسك ، وأن تسعد بربك ، كلمة جامعة مانعة ، ولأن خالق الأكوان يقول لنا : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً }ولأن خالق الأكوان يقول لنا : { قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ }النساء77
فلو ملكت البلاد وجاءك ملك الموت فلابد من مفارقة الدنيا :{ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ }ولذلك فإنَّ الأنبياء كُتِب عليهم الموت ، وإنّ المؤمنين والكفار كتب عليهم الموت ، لأن الموت مغادرة ، فالبطولة أن يكون لك عند الله ما بعد الموت حظٌ كبير، فمن يؤتى الحكمة يعمل للدار الآخرة ، والكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
لقد اشتهر في العالم الإسلامي الحكم العطائية ، وهي في الحقيقة من أجَلِّ الحِكَم ، وقد درّستها قبل سنوات عديدة ، وأخ كريم تمنى علي أن نقف وقفة عند بعض حكم ابن عطاء الله السكندري ، الحقيقة أنّي تصفحت هذه الحكم ، واخترت لكم بعضها :
" بَسَطَكَ كي لا يبقيك مع القبض ، وقَبَضَك كي لا يتركك مع البسط ،
وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه "
فالإنسان تعتريه أحوال ، وفي بعض الأحيان يشعر بانشراح وامتداد وسرور وطمأنينة ، والحديث عن المؤمنين ، وعن طلاب العلم ، عمن يطلب ويرجو الله واليوم الآخر ، فأنا أخاطب طلاب علم ، وأخاطب رواد مسجد ، و أخاطب أناسًا إن شاء الله لهم باع طويل في معرفة الله ، فالحديث ليس عاماً ، بل هو خاص بالمؤمنين ، ففي بعض الأحيان تشعر بانشراح وامتداد وتألق وطمأنينة وسعادة ، وأنتَ أنتْ ، وأنت مستقيم ، وتؤدِّي عباداتك كلها ، وأنت وقّاف عند كتاب الله، وأنت مطبق لمنهج الله تشعر بالقبض فما الذي حصل ؟ الذي حصل هو أن الله سبحانه وتعالى ربّ العالمين ، فلو أن هذا الانبساط استمر ، فالانبساط من لوازمه أن تضعف عبادة الإنسان ، وأن تضعف همته ، وأن يكسل عن بعض الطاعات ، ويأتي الانقباض .
فالله عز وجل يتجلَّى تارة باسم الجليل فتنقبض ، ويتجلى تارة باسم الجميل فتنشرح ، فقد يأتي القبض ، وقد يأتي البسط ، والحقيقة أن الله عز وجل يريدك أن تكون معه ، لا أن تكون عبدًا للأحوال ، فيجب أن تقدم له الأعمال ، أمّا الأحوال فمرَغِّبة معينة أحياناً ، ولكن ليست مقياساً ، والعلم حَكَم على الحال ، فبسطك كي لا يبقيك مع القبض ، فالله حكيم ، ولو استمر القبضُ لضجر الإنسانُ ، يأتي القبض فيضيق الإنسانُ به ذرعاً ، فيأتي البسط فيرتاح ، ولو استمر البسط نحن لسنا كالصادقين والأنبياء المقربين لا ، فنحن حينما نرتاح نضعف ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي الليل حتى تتورم قدماه ! ويمضي النهار في الدعوة إلى الله .
فَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ فَقَالَ : أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا * (صحيح مسلم)فأحدنا إذا عمل عملاً صالحاً ، أولاً يعلن عنه كثيراً ، ويملأ الدنيا صخباً ، ثم يرتاح بعدها راحة عفوية ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يجهد النهار ويجهد الليل ويقول : " أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا " فربنا عز وجل يعالجنا بالقبض والبسط ، فإذا تبحبحنا يأتي القبض ، وإذا كدنا نيأس يأتي البسط ، أنت ما مهمتك ؟ مهمتك أن تعبده وأن تدع أمر القبض والبسط إليه ، والدليل على ذلك أن الله عز وجل يقول : { وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ }الأعراف144 فهذه مهمتك ، ارتَحْ وأَرِحْ ، فأنا عليّ أن أطيعه ، وهو ليفعل بي ما يشاء ، فهو رحيم وحكيم وعليم وقدير ، وأنا علي أن أطيعه ، وتمثلوا قول النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف :" اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني إلى عبد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك "(الطبراني في الكبير عن عبد الله بن جعفر )ولا يوجد كلام أروع ولا أدق ولا أجمل ولا أعبق ولا أكثر أدبًا مع الله عز وجل من هذا الكلام ! " إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولكن عافيتك أوسع لي" فإذا أعطاك فالحمد لله ، وإذا منعك فالحمد لله ، وإذا بسطك فالحمد لله ، وإذا قبضك فالحمد لله ، وإذا رفعك فالحمد لله ، وإذا خفضك فالحمد لله ، وإذا ضيّق عليك فالحمد لله ، فهذا المؤمن الصادق ، والله عز وجل الذي تحبه وتعبده وتؤثره وتشتاق إليه ، فهذا الذي أنت فيه هو قراره ، وقل مع الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، ولو كشف الغطاء لاخترتم الواقع ، ولو أن كل إنسان انزعج من شيء ساقه الله إليه ، ثم كشف الله له علم الغيب لمَا تمنَّى إلا أن يكون كما هو .
ومرة قرأت مثلاً دقيقًا ؛ أب عنده بنت جميلة ، عمرها اثنتا عشرة سنة ، قطعة من الجمال والحيوية ، تملأ البيت حبوراً ، لو أنها ماتت فموتُها شيء لا يحتمل ، وشيء مؤلم ، لا سمح الله ولا قدر ، ولو أن الله كشف له أن هذه إذا عاشت عمرًا مديداً كانت زانية ، والأب صاحب دين ومؤمن ماذا يسأل الله ؟ يا رب اقبضها ! لو أن الله كشف لك ما سيكون لما أردت إلا ما هو كائن ، ولا تمنيت إلا ما هو كائن ، ولذلك استسلمْ دائماً، وعندنا حالة اسمها القبول ، فالمؤمن يقبل واقعه ، وهذا القبول مسعد ، عبَّر عنه علماء القلوب بالرضا ، فهو راضٍ عن الله ، قال له : يا رب هل أنت راض عني ؟ وكان وراءه الإمام الشافعي فقال له : هل أنت راض عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال له : يا سبحان الله من أنت ؟ فقال : أنا محمد بن إدريس ، قال : كيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه ؟ قال له : إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله .
إذا كنتَ تستقبل مكروه القضاء بالرضا فأنت تعرف الله ، فأنا لا أحب أن ينشغل المؤمن بالأحوال ، فأحياناً تجد إنسانًا مشروحًا مسرورًا منبسطًا ممتدًّا ، يتكلم بطلاقة ، وفي عينيه تألق ، عينان زئبقيتان ، وخده متورّد ، وكلامه دقيق ، ومرتاح ، وأحياناً تجده كابتًا ، فإذا اعتمر الإنسان، فربنا عز وجل لحكمة بالغة يذيقه أحياناً الانقباض ، وهناك أمام رسول الله ، وأمام سيد الخلق لا شيء أبداً ، مثل الحائط ، لقد كان قادمًا من باب عالٍ ، ويقول في نفسه : أنا وأنا ، وأنا لي أعمال صالحة ، وأنا مؤمن ، والآن سأبكي أمام رسول الله ، ثم لا يبكي أبداً ، بل ينكسر ، يأتي في اليوم الثاني منكسرًا ، يفتح الله عليه ، فيقول لك : ذقت لقاء مع رسول الله لا أنساه حتى الموت ، فأول يوم لم يتحقق اللقاء ، فكان فيه اعتداد وانبساط ، ومع الانبساط يوجد اعتداد ، وفي اليوم الثاني أصيب بانقباض ، ومع الانقباض وُجِدَ تذلل ، فالله فتح عليه .
ولذلك الأحوال مسعدة ، والانقباض صعب ، ولكن الله يربِّينا عن طريق الانبساط والانقباض ، وعن طريق البسط والقبض ، والله عز وجل من أسمائه الباسط والقابض ، يفهمون هذين الاسمين على أنهما بمعنى مادي ، أي يعطي المال أو يأخذه ، وهذا معنى مقبول ، لكن هناك معنى أرقى فهو قابض ، أي يقبض نفسك ، فإذا هي تضجر ، وباسط ، أي يبسطها ، فإذا هي تتألق ، لقد بَسَطك كي لا يبقيك مع القبض ، وقبضك كي لا يتركك مع البسط ، وأنت له ، أنت عبد الفتاح ، لا عبد الفتح ، وأنت عبد الله ، لا عبد الأحوال ، فإذا قام إنسان بخدمة كبيرة للمسلمين ، وليس عنده أحوال ، فسيدنا خالد كان يحارب ويفتح البلاد ، وهو في أثناء الفتح منهمكٌ بوضع الخطط ، ورسم الطرائق الناجعة لكسب المعارك ، ويهتم لضعف العدد وقلة العُدد ، فلا توجد الأحوال ، ولكن توجد الهموم ، وهذه الهموم مقدسة ، أي أنت فوق الأحوال ! والأحوال